Home » » الانتقائية وازدواجية المعايير في الإعلام الليبي |

الانتقائية وازدواجية المعايير في الإعلام الليبي |



محمد اقميع |

لم يشفع لقناة العاصمة الفضائية أناشيدها الحماسية وتغزلها بمفاتن المسلحين وبطولاتهم وتحويلها لأولئك الشباب البسطاء إلى نجوم في قاعات بثها التلفزيوني اليومي؛ ولكن، مع ذلك وقعت قناة العاصمة وعاملوها ضحية لإرهاب أولئك المسلحين، أو من تسمـيهم الفضائيات الليبية بـ (الثوار)، أولئك البسطاء الذين حوّلهم الإعلام إلى فاشـيين جـدد.

لا أحد  يولد فاشيًا أو طاغيًا أو ديكتاتورًا، وإنما هم أناس عاديون جدًّا حوّلهم الهتاف والمديح والتكبير إلى مرضى. إن الطغاة ضحايا الجماهير المخاتلة والمازوشية والإعلام الانتهازي الذي يغازل الأقوى دائمًا، ولكن، ما يلبث أن يكون أحد ضحاياه.

ما يتعرض له الإعلاميون، وكذلك المؤسسات الإعلامية في ليبيا من اعتداءات إرهابية متكررة أمر كارثي، والمؤسف أن يكتفي الإعلاميون ببيانات التنديد والاستنكار بينما تستمر آلة الموت والإرهاب تفتك بهم الواحد تلو الآخر، وأن ينتظر كل إعلامي دور اغتياله أو خطفه؛ كما هو حال ضباط الجيش والشرطة ، ودونما أي رد فعل سوى عبارات الأسى والحزن والتنديد.

لـو أراد الإعلام الليبي الرد بقوة على الميليشيات بكل أطيافها واستئصال هذا السرطان الخبيث من جسد الوطن لكان له ذلك؛ فإن سلاحه أقوى من ترسانة الميليشيات، ولكن مشكلة الإعلام هي انتقائيته الانتهازية وسياسة المعايير المزدوجة التي يتبعها خطابنا الإعلامي، إضافة إلى أن كثيرًا من القنوات ما هي إلا أجنحة إعلامية لتلك الميليشيات وأخرى مجرد قنوات "للابتزاز السياسي" وليس من الصعب كشفها للرأي العام.

فضائية العاصمة لم تكن الوحيدة ضحية إرهاب الميليشيات، فتعرضت للاعتداء أيضًا قنوات "ليبيا الحرة" و"ليبيا الأحرار"، وكذلك صحيفة "ليبيا الجديدة" وتعرض رئيس تحريرها "محمود المصراتي" لمحاولة الاغتيال، وكذلك حادثة اختطاف الإعلامي "سليمان دوغة" وحادثة الاغتيال المروعة في بنغازي للإعلامي الشاب "عزالدين قوصاد" الفلسطيني الجنسية؛ وكثير من الإعلاميين المغيبين الذين تم اختطافهم وما زال مصيرهم مجهولاً، هذه الأعمال الإرهابية دفعت كثيرًا من الإعلاميين إما إلى الاعتزال والتزام الصمت أو الفرار من وطنهم، بحيث لم يعد المهجرون والفارون للخارج هم فقط أنصار النظام السابق، بل انضم إلى قوائم هؤلاء المُهجّرين والمنفيين كثيٌر من السياسيين والإعلاميين والمُعارضين السابقين لنظام القذافي هربًا من بطش الإرهابيين وسلاح الثوريين الجدد.

كتبت المُعَارضَة، والوزيرة الليبية السابقة، المقيمة بالخارج "د. فاطمة الحمروش" على صفحتها بـ"الفيسبوك": "كما كنت مُعارِضة للظلم في نظام الجماهيرية، فإني أجد نفسي اليوم ما زلت مُعارِضة، فالظلم أصبح مضاعفًا عما كان عليه عشرات المرّات، وسأظل معارِضة إلى أن يُرفع الظلم عن المظلومين"، وكذلك فعل كثير من الإعلاميين والناشطين ومن بينهم المعارض السياسي السابق والإعلامي المعروف "حسن الأمين"، الذي قرر العودة إلى منفاه رافضًا الانصياع لسطوة الميليشيات الثورية وممارساتها الإرهابية أيًا كانت انتماءاتها الأيديولوجية والقبلية.

ولم يقتصر الأمر على النشطاء والإعلاميين بل إن مؤسسات وقنوات إعلامية فضلت البقاء خارج الوطن خوفًا على سلامة إعلامييها وعامليها من بطش الميليشيات المسلحة، ولن نستعرب أن تضطر "قناة العاصمة" أيضًا إلى الفرار إلى إحدى الدول الأجنبية لتواصل بثها من الخارج بعد الاعتداءات الإرهابية المتكررة على مقرها وعامليها؛ أو أن ينجحوا في إرغامها على التوقف النهائي عن البث.

الهروب من أرض الوطن يبدو الحل الأمثل للفضائيات الخاصة أسوة بزملائهم في الخارج، ولكن هل سيضطر كل الشعب الليبي إلى الفرار من ليبيا هربًا من بطش الميليشيات الثورية المسلحة القبلية منها أو المؤدلجة بكل أطيافها؟ هل الحل هو أن تبقى ليبيا غابة للكائنات الميليشياوية المفترسة ويهرب منها كل الليبيين؟

الميليشيات ليست أغلبية، وليسوا هم الطرف الأقوى، ولكن خطابنا الإعلامي هو أحد أسباب تغـول هذه الميليشيات المارقة سواء الشرعية منها وغير الشرعية، وسواء كانت تلك الميليشيات جماعات دينية متطرفة أو عصابات قبلية أو عصابات سطو وتهريب بشر وسلع ومخدرات، فكل هذه العصابات تحتمي بالمظلة "الثورية" وكلهم "ثوريون" ويحملون صفة ثائر ومشاركون بجبهات القتال؛ فأثناء الحرب لم يكن هناك من يسأل مقاتلاً عن سيرته الذاتية، و"الثورة" منحت الجميع "صك الغفران" وهوية "مناضل".

إضافة إلى أن ممارسة الانتقائية في تصنيف الميليشيات من قبل وسائل الإعلام زاد من إرباك الحالة الليبية وتنامي حالة الانفلات الأمني والفوضى. فإن هوية وانتماء الميليشيا يقومان بدور أساسي في التعاطي إعلاميًا مع جرائمها والانتهاكات التي ترتكبها، فهجوم إحدى الميليشيات على أحد مقرات الدولة وتهديدهم بالسلاح يعد عملاً "ديمقراطيًا" وواجبًا وطنيًا لو كانت تلك الميليشيا تنتمي لقبيلتي أو مدينتي أو تحمل ميولي الأيديولوجية نفسها، وسيكون هؤلاء "مجرمين وانقلابيين" لو كانوا ينتمون للحزب المنافس أو لقبيلة أو مدينة غير حليفة لنا.

فعلى سبيل المثال فإن بيان "كتائب القعقاع والصواعق"، أخيرًا ، والذين هددوا فيه المؤتمر الوطني وأمهلوه خمس ساعات لتسليم السلطة هو من وجهة نظر بعض الفضائيات الليبية هو "عمل ثوري" و"واجب وطني" قامت به هذه الميليشيات استجابة للشعب! ومن وجهة نظر فضائيات ليبية أخرى هو "انقلاب" على الشـرعية، وكـذلك هو الحال بالنسبة لاحتلال الموانئ النفطية الذي يكلف الدولة مليارات الدولارات هو عمل بطولي من وجهة نظر بعض الفضائيات الليبية الحليفة لتلك الميليشيا؛ بينما تعده بعض الفضائيات الأخرى عملاً إجراميًا وتمردًا على الشرعية.

لا يعقل أن نصل إلى مرحلة الخلط بين الجريمة والعمل الوطني، فثمة ثوابت واضحة لا تحتمل اللبس، فإما أن تكون ليبيا دولة أو لا تكون، وفي التعريف الصريح والواضح للدولة بأنها: هي وحدها من تملك قـوة الإرغام لضمان الالتزام بقوانينها، ومعاقبة المخالفين في إقليمها الجغرافي، بحسب التعريف الشهير لـ "ماكس فيبر" وتأكيده على وجوب احتكار الدولة لما يدعوه بـ "العنف الشرعي" في المجتمع، وإما أن تعمل الدولة نفسها على شرعنة الوجود الميليشياوي والتعايش معه والاستعانة بالعصابات المسلحة لحماية رجال الدولة ولحماية الحدود والمنشآت الحيوية، فهذا ليس له من تفسير إلا الرغبة في تدمير البلد وإنهاء وجوده، والإعلام بالطبع سواء الخاص أو العام ليس بريئًا من هذه الجريمة التي ترتكب بحق ليبيا.

فإن هذه الانتقائية في خطابنا الإعلامي وسياسة المعايير المزدوجة التي نتبعها لن تؤدي إلا إلى مزيد من التصدع وانهيار الدولة وتغـوّل هؤلاء الإرهابيين "سواء كانوا إسلاميين أو ليبراليين أو قبليين بمختلف أطيافهم وانتماءاتهم. إننا جميعًا ننزلق نحو التعصب وتتسرب إلينا عدوى التحشيد الأيديولوجي والجهوي والقبلي ، وإن أنكرنا تعصبنا ، فإنها ثقافة نحن نحفرها بأظافرنا اتباعًا لأهوائنا وإرضاء لنزعتنا البدائية في مناصرة أبناء عشيرتنا وقبيلتنا أو مدينتنا ولو كانوا ظالمين أو مجرمين.

والإعلام عليه أن يتوقف عن تمثيل دور الضحية، فهو الطرف الأقوى في المعادلة الليبية لو أراد العمل على تحقيق الاستقرار الأمني والاقتصادي والسياسي وبناء الدولة، ولكن هذه الفرصة للعب دوره المهم ليست متاحة للإعلام للأبد؛ كما أنها لن تكون مجدية إذا ما استمر كل وسيط إعلامي بالتغني على عشيرته وقبيلته، فلا مفر من العمل المشترك من أجل هدف موحد هو "بناء الدولة" وبعد ذلك فليتنافس المتنافسون، أما إذا ما استمرت سياسة المعايير المزدوجة ورفع شعار (ولتذهب البلاد للجحيم إن لم نحكمها)..!
فعندها حتمًا الجميع خاسرون.

ـــــــــــــ
 محمد أقميع | نشرت في بوابة الوسط / السبت, 22 فبراير 12:40 PM
Recent Posts Widget

" Weapon of paranoia"

إعلام الكراهية

كيف يرتب الإعلام أولوياتنا؟