Home » » حرب الميادين

حرب الميادين

 

حرب الميادين 



محمد اقميع  ...


بلا أدنى شك إن قوة الاعلام تفوق قوة السياسة، والقوة السياسية بلا ترسانة اعلامية تساندها هي قوة خائرة وزائلة لا محالة، ومصيرها السقوط والنسيان.

وبحسب المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه "فإن الثورة الاعلامية هي ثورة سياسية، والعكس ليس صحيحاً، وبالاختصار لم تعد السياسة في مركز القيادة" بل الاعلام. 

والمبدأ القائل: (قل لي أي فضائية تشاهد أقل لك من أنت) - فيه كثير من الحقيقة. لأننا نعيش زمن التحشيد والشحن الطائفي والمذهبي والايديولوجي عبر الفضائيات ووسائل الاتصال. والشعوب أصبحت مجرد أفواه فاغرة وعقول مُعَـطـلة وقطعـان تساق للميادين كالأغنام...! يحشد هذا ويحشد ذاك ويتفاخر كل فصيل بما جمعه في قطيعه السياسي من عدد رؤوس هذا الشعب. والانسان في بلداننا أصبح دمه أرخص من دم الماشية، يذبح هذا قربانا للحاكم وذاك قرباناً لمعارضيه غير مأسوف عليه..!

لقد أصبح الدم والقتل مادة للإثارة والتشويق في الاعلام العربي  ... ولاهَمّ لفضائياتنا العربية الكبرى سوى العمل على دفع مزيد من القرابين البشرية وتأجيج مشاعر الثأر والانتقام والإقتتال بين أبناء البلد الواحد بل وبين أبناء الدين الواحد. وقد أسقطت هذه الفضائيات من قواميسها وإلى الأبد خطاب المصالحة والتسامح واصلاح ذات البين والدعوة إلى الحوار الجاد والبناء ما بين كل الأطراف المتنازعة على السلطة..!! ربما لم تخلق هذه الفضائيات إلا لأداء هذا الدور نحو تكريس حالة الفوضى والانقسام في تلك الدول المنكوبة.

إن تأثير وسائل الاعلام لا يقتصر على العوام والبسطاء من الناس -كما يعتقد البعض- بل وعلى من ادعى انتمائه للنخبة الواعية والفطنة أيضاً ... وفي هذا يشير الكاتب والمفكر الأمريكي والتر ليبمان " (إن وسائل الإعلام "ربما" لا تنجح دائما في إبلاغ الجماهير كيف يفكرون (أي اتجاهاتهم) ولكنها تنجح دائما في إبلاغهم عما يجب أن يفكروا فيه). ويأتي تعليقه هذا ضمن ما يعرف في الاعلام، بنظرية Agenda- Setting Theory أو نظرية ترتيب الأولويات.  

وعلى سبيل المثال فإنه عندما تصبح فوضى وحروب ما يسمى بـدول "الربيع العربي" وتبعاته في الواجهة وفي صدارة الأخبار والتغطية المباشرة في الفضائيات الرئيسية فلا أحد سيذكر أو يتساءل عما يحدث في "فلسطين المحتلة" مثلاً! ولا أحد سيعير اهتماماً لمذابح بورما ... ولكن ... لنبقى في مصر ولنترك الجارة اسرائيل آمنة مطمئنة ... وطالما الأجندة مصرية والحرب المستعرة هي اسلامية اسلامية وقد أرادت قنواتنا العربية الكبرى كالجزيرة والعربية وسكاي نيوز أن تكون "مصر" احدى أهم ساحات الاقتتال الدموي والاعلامي اليوم فعلينا أن لا نفكر بسواها، وليختار كل منا الفريق الذي يصفق له لقتل وابادة الآخر...!

وربما الجديد واللافت اعلامياً في أزماتنا الحالية هو موقف الاعلام العربي مما حدث في مصر بعد أن خلعت الأطراف الخليجية المتصارعة سياسياً واعلامياً أقنعة "الحياد والموضوعية". فتظهر دولة قطر والجزيرة بلا مواربة أو تردد كداعم رئيسي لجماعة الإخوان المسلمين وقد أصبحت الجزيرة هي "التلفزيون الرسمي" لجماعة الإخوان المسلمين، بينما في المقابل تظهر كل من السعودية والامارات كداعمين قويين للجيش المصري عبر قناتي العربية وسكاي نيوز العربية وشبكة الـ mbc. فشبكة الجزيرة تصف ما حدث في مصر عقب ثورة 30 يونيو بأنه (انقلاب عسكري على الشرعية) بينما قناتي "العربية" السعودية و"سكاي نيوز" الاماراتية تصف ما حدث بأنه (ثورة) أو (الثورة الثانية).

لينقسم الشارع المصري بل العربي عموماً ما بين "اسلاموي" مؤيد لجماعة الإخوان فيلتصق بشاشة الجزيرة فاغـر الفاه والروح يلتهم كل ما تقدمه له الجزيرة عن طيب خاطر والقسم الآخر من الشارع العربي مؤيد للسيسي والجيش المصري مناصباً العداء للجزيرة الإخوانية ليرتمي في أحضان قناة العربية وشبكة الـ mbc والسكاي نيوز ويصب اللعنات والشتائم على الفريق الاسلاموي المؤيد للجماعة والرئيس المعزول. 

وما بين رابعة والتحرير يسجل التاريخ بأن أمة الإسلام قد تحولت إلى قطيع يدعي الثورة على الطغاة وكسر القيد في ربيع كانت أزهاره جتتث أبنائه الأبرياء ... ولتستبدل الشعوب هروات البوليس في ازمنة الطغاة بهروات اعلام الخليج العربي يسوقهم أمراء وملوك النفط والغاز وحراس القواعد الأمريكية حيث يشاؤون...!  

ألم يتساءل من تبقى من العقلاء: من المستفيذ من حمى الاستقطاب وحشر الملايين من البسطاء في الميادين وتأجيج الفوضى وهستيريا القــتـل الجـماعي وسلسلة الاغتيالات لقادة وأفراد الجيش والأمن في دول ما يسمى بـ "الربيع العربي"؟ ولماذا هذه الحرب المستعرة بين من يوصفون بـ "الاسلاميين" والجيوش العربية وكل هذا العداء والتحريض المتبادل على إبادة كل طرف للطرف الآخر؟

السعودية وقطر والإمارات ... هل هذه البلدان ينتمون لمجلس تعاون أم تآمر على هذه الأمة؟ وهم تراهم أمراء وملوك رحماء فيما بينهم أشداء على أمة العرب والاسلام..! ولا شيء يجمعهم غير العبث وتأجيج الفوضى والتحريض على الاقتتال وتمويل النزاع وسفك الدماء في دول كان قدرها أن تُسمّي الحروب والاقتتال بين أبنائها "ربيعـاً" رغم أنفها...!

والغريب بأنهم متفقين متآزرين كبنيان مرصوص في البحرين والقطيف ضد كل من تسوّل له نفسه معارضة أنظمتهم أو تجرأ أن يستنسخ تجربة الربيع العربي في بلدانهم، وملتحمين متآزرين في جبهة واحدة من أجل استمرار مسلسل القتل وسفك الدماء وإشعال الحرب الطائفية بسوريا ... ومتناحرين متقاتلين في ميادين وساحات مصر وتونس وليبيا والعراق وقد تحولت هذه البلدان الى ساحة تصفية حساب فيما بينهم.

وسواء تمّرّغ "المتلقي العربي" بأحضان الجزيرة أو بأحضان العربية وسكاي نيوز فالنتيجة واحدة ...! فلاشيء غير فوضى الدم والقتل والترويع ولا حصاد يرجى غير حسرة على أوطان تنساب كالرمال بين أصابعكم الملوثة بدماء بعضكم بعضا.. !

ربما سيأتي وقت لا تملك فيه إلا أن تجثوا على ركبتيك متضرعاً لأمراء وملوك الخليج بـأن يكفوا شرهم وعبثهم ويتوقفوا عن تأجيج الفتنة، أو أن تنتبه حكوماتكم لتنفق على اعلامها أكثر مما ينفقون .. ليكون ثمة اعلام يعنيكم وينتمي الى الوطن ليحميه شر الفتن وليبث خطاب المصالحة والحوار البناء بين أبناء الوطن بمختلف انتماءاتهم وعقائدهم لا غلبة فيه لطرف على الآخر بل مصلحة الوطن دائماً قبل وفوق الجميع.



أغسطس 2013
...    

2 التعليقات :

  1. والله لقد أبدعت وأصبتكبد الحقيقة ولكن وبكل أسف وكما يقال (لقد أسمعت إن ناديت حيا). بارك الله فيك.

    ردحذف
  2. مقالة جد رائع اخى محمد اقميع , و الحدة و التزتر بين ابناء الوطن يزداد يوما بعد يوم , و لكن لم يفكر احد منهم من المستفيد و اين عقلى من كل هذا التناحر الدموى !

    ردحذف

Recent Posts Widget

" Weapon of paranoia"

إعلام الكراهية

كيف يرتب الإعلام أولوياتنا؟