Home » » محمد اقميع: "مدن الملح" لا تصنع الربيع

محمد اقميع: "مدن الملح" لا تصنع الربيع



 إن "مدن الملح" لم تعرف غير الجذب والصمت وانقلابات الشيوخ على أبائهم وأصهارهم واشقائهم...! انها مدن انتفخت فجأة بالغاز وستنفجر فجأة ليعودوا إلى مضارب خيامهم ويعودوا لغزو بعضهم بعضا وكما قال عبد الرحمن منيف: "ان مدن الملح، ترتفع وتكبر، لكن إذا جاءها الماء: فشّ، ولا كأنها كانت".

* * *

"بارك الله فيك يا قطـر": صاح العجوز المُتهَدّم، مرتعداً على منبره الأخير، بعد ان ألمته "طـعـنة بروتس"، ولم يذكر غير "قطر" - في أول خطاب له بعد أنطلاقة مظاهرات 17 فبراير - ربما لأنه شعر بأن طعنة رفيقه هي الأشد والأكثر إيلاماً. مذكرا اياه بالخبز الملح - كعادة البدو- وقد لا نلوم "بروتس العربي" فربما كان مؤمناً بما قاله "بروتس الروماني" من قبله: "أنه لا ينبغي لنا أن نخضع للمستبد ولو كان هذا المستبد أبانا نفسه".

ولكن هل يستقيم أن يكون الإسكافي حافياً؟ أو أن يثور مستبد على الاستبداد؟ ألم يكن مصير الشاعر القطري محمد بن الذيب السجن المؤبذ ! وكل ذنبه قصيدة شعر حالماً بأن يصل الى صحرائهم "ربيع الثورات العربية"..! يبدو أن ابن الذيب خدعه عواء الجزيرة "المناصرة لشعوب الربيع العربي" ألم يعلم شاعرنا بأن "مدن الملح*" تقتل الربيع ولا تصنعه!

لم يكن وحده ابن الذيب من خدعه السراب..! ففي ليبيا تحول الربيع إلى شتاء مرعب من الدم والقتل وحرب شرسة خاضها شعب لم يَرمِي يوماً بحجر منذ عقود عجاف من القهر والصمت، إلى أن كسر ذلك الصمت ودكت الجدران مقاتلات الحلف تمطـر القنابل والصواريخ - حتى يكون هذا "الربيع" خصباً، وليكون قطافه رؤوس أبنائنا وأطرافهم - واختلطت سماء ليبيا بالدخان والزغاريد وأشلاء الموتى المتناثرة...! فقد اتاها الربيع مختالاً ضاحكاً ..!    

وبعد أن تقطعت الأنفاس وفاضت المقابر بجتتث البسطاء والعوام من كلا الفريقين - رَحِمَهُم الله جَمِيعَاً - أدرك الفريقان بأن كلاهما قد خسر الحرب. إلا أن كبرياء البدو وعنادهم يمنعهم من الرضوخ والاعتراف. فالإعتراف نقيصَة نَتىرَفَع عَنهَا.

فلا انتصر العجوز المُـتَهَدِّم الموهوم بالعظمة ولا جاء الربيع الموعود، وكان مجرد ركض خلف سراب. وتلمع سراً في هذه العتمة كلمات الصادق النيهوم رحمه الله "ان السراب لا يخدع إلا من كانت قلته* بلا ماء" .!

وبالفعل .. لقد كانت قلتنا بلا ماء واستغل عطشنا صانعوا السراب، واصحاب القرار من الطرفين.

ورغم كل ذلك فإن هذا الشعب كان قادراً أن يستعيد عافية وطنه وأن يضمد جراحه، وينطلق في مسيرة بناء وطنه فقد حباه الله بكل ما يحتاجه. فلا طوائف ولا شيع متناحرة ولا أحقاد بين أهله فكلهم ذوي قربى وأصهار وكل ما يعرفونه أنهم ليبيون وكفى، تجمعهم ليبيا وطناً آمناً ينام بلا عسس منذ زمن بعيد. حتى اقتحمت خلوتهم وبيوتهم فضائيات "مدن الملح" وفضائيات المتهافتين على السلطة، لتزرع برؤسهم الخصبة خارطة وطنهم الجديد وقائمة طويلة من الحروب الجديدة التي عليهم خوضها رغم أنوفهم.    

في كل معارك التاريخ لإنتزاع العرش لم يحدث أن بقي ذلك العرش خالياً في انتظار من يملؤه "ديمقراطياً" دائماً هناك من يقفز قبل الجميع  وقبل كل تلك الطقوس الوهمية للاقتراع الحر. انهم لم يتكبدوا كل ذلك العناء وينفقوا كل تلك الأموال حتى يتقدم اولئك الحفاة والبؤساء من الرعاع لينصبوا من يشاءون ملكاً عليهم. انما يؤخذ العرش غلابا...!

لذلك لم يلبث الفرح بإنتهاء الحرب أن انطفأ من وجوه البسطاء، حتى انتصب الرعب من جديد وخرجت الأسلحة من مخابئها وتم رسم الاصطفافات الجديدة لليبيين، وقفز للواجهة تصنيف العلمانيين والاسلاميين ورغم أن الليبيين في البدء أستهجنواهذا التصنيف في نهايات الحرب، فقد كانت المرة الأولى التي يظهر فيها هذان الاصطلاحان في المشهد الليبي، ولكن ... مع الضخ الاعلامي المستمر والمتواصل تعوّد الليبيين ورضخوا طائعين لخارطة الإصطفاف الجديد.

ولم يتوقف الأمر بالطبع عند هذا الحد بل استمرت امبراطورية "الجزيرة" بضخ المزيد من الانقسامات داخل كل فريق مابين اخوان وسلفيين وصوفيين وجهاديين وغيرهم...! وكذلك التقسيمات القبلية والجهوية وما كشفت عنه حفرياتهم التاريخية من تقسيمات جهوية كان قد عفا عليها الدهر لينفخ الاعلام فيها الحياة ولتعود بكل قوتها ولتعاد رسم الخارطة الليبية من جديد، في تكرار حرفي للسيناريو العراقي عقب الاحتلال الأمريكي.

كان ذلك طبيعياً... لأن إحكام السيطرة على أي شعب تتطلب تفتيته وزرع بؤر التوثر والنزاع بين فئاته ومكوناته المجتمعية. وكذلك لم يغفلوا عن صناعة مرجعيات دينية تدين لهم بالولاء، فكما يقول ميكافيلي: "إن الدين ضروري للحكومة لا لخدمة الفضيلة ولكن لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس". وكان لهم ذلك.

 الرأي العام الليبي:

بدون السيطرة على وسائل الاعلام لا تستطيع دولة أو جماعة احكام هيمنتها على أي شعب. فأي شعب - ليس في نظر "امبراطورية الجزيرة" فحسب - بل بالنسبة لمنظري الاعلام عموماً هو مجرد قطيع يسهل اقتياده حيث يشاء طبقاً لتقنيات (صناعة الإجماع) أو ما يسمى بـ (صناعة الرأي العام). فكما يقول تشومسكي "أن الاعلام في النظام الديمقراطي هو بمثابة الهروات في الدولة الشمولية !" فمن يهيمن على الخطاب الاعلامي للدولة هو من يسوق هذا القطيع حيث يشاء ولو إلى حتفه راضياً مُطمئناً. انه السلطة أو القوة الناعمة التي جعلت من دويلة قطر لاعباً رئيساً في اعادة رسم خارطة الشرق الأوسط.  

لذلك فإن دولة قطر والتي يرى الكثيرون بأنها هي من قفزت على العرش الليبي الشاغر قبل الجميع وهي المهيمن الرئيس على الساحة الليبية – بحسب تصريحات القيادات السياسية امثال محمود جبريل الذي وعدنه قطر بمنحه رئاسة الحكومة شرط نخليه عن ملف الدفاع والداخلية –حسب تصريحات جبريل نفسه. وشلقم الذي قال بأن قطر تسيطر على خمس ملفات رئيسية في ليبيا ومنها الأمن والدفاع والمالية والنفط وغيره.

لم تكتفي قطر بأمبراطورية الجزيرة لـ "توجيه وتعليب الرأي العام الليبي" بل تُبشّرنا بالمزيد من القنوات القطرية الموجهة للشارع الليبي وآخرها قرب انطلاقة قناة (ليبيا مباشر) اضافة لقناتها السابقة التي انطلقت من الدوحة منذ بدايات الحرب ولازالت تبث من الدوحة واعدين بأن تنتقل لعـقـر دارنا قريباً، وهي بحسب رئيس مجلس ادارتها "أحد قيادات المكتب التنفيذي السابق" فإن دولة قطر هي من تتكفل بتمويل القناة بالكامل من أجور ومصاريف البث وغيره. وتستعد قطر لإطلاق قناة الثانية (ليبيا مباشر)..! لأن ليبيا تفتح دراعيها وقدميها مرحبة بالجميع.

يتساءل المواطن الليبي البسيط ممن يحتفظ ببعض من "كرامته وشرفه" هل تجرؤ حكومتنا الليبية الموقرة أن تبث قناة تسميها (قطر مباشر) أو (قطر لكل الأحرار)؟ يعرف المواطن الليبي الإجابة سلفاً ... فإن قـطـر دولة ذات سيادة لا يسمح بإنتهاكها أما ليبيا فقريباً ستشهد انطلاق قنوات أخرى تمولها قطر وغيرها تختى مُسمَى (غرف نوم الليبيين مباشر)..! بدعوى الشفافية وحرية الاعلام...! فليبحث الليبيون حينها عن مكان يوارون فيه سوءاتهم.

ولم تكن الهيمنة القطرية على ليبيا ما بعد سقوط نظام القذافي مسألة خافية على أحد وبحسب أحد القيادات الشبابية لـ 17 فبراير من مدينة بنغازي وهو الناشط السياسي والمحامي عبد السلام المسماري وفي لقاء له بصحيفة عروس البحر في عددها الصادر بـ 6 ديسمبر 2011 أشار فيه صراحة بأن انتهاك قطر للسيادة الليبية بدأ منذ مارس 2011 عن طريق دعمها المباشر لجماعة الاخوان المسلمين بالمال والسلاح – حسب قوله – وأن قطر هي عملت على إذكاء القبلية عن طريق استدعائها لأعيان عدد من القبائل وتقديمها للرشاوة المالية لهم ولعدد من القيادات السياسية في المجلس الانتقالي السابق. ويتهم قناة الجزيرة بإقصائها للشباب الوطنيين والتعتيم على دورهم مقابل تسويقها وترويجها لجماعة الإخوان. وفي ختام لقائه يقول المسماري: (بأن الليبيون لم ينزلوا القذافي من ظهورهم ليعتليها غيرهم.) ... ولكن، هذا ماحدث !

وهذا ليس بغريب .. فمثلما لا يُستقيم أن يكون الإسكافي حافيا أو أن ثمة حائكاً لا يملك ما يستر به عورته، فإنه أبداً لا يستقيم أن تولد الثورات في بلاط الأمراء والسلاطين أو أن تُختَطَف "الثورات" لتترعرع تحت أقدامهم وأن يقتات "الثوار" من خزائنهم.!

فإن أردتم حقاً لهذا "الربيع المأمول"، أن يُزهر فلتترفعوا عما زرعوه بينكم من أحقاد ولتقطعوا الحبل السري لهذا الربيع المنتظر من قصور الأمراء والسلاطين. وجربوا ربما ستجدي نفعاً أن تهمسوا في آذان أولئك الأمراء والملوك والرؤساء عرباً وعجم:  "شكر الله سعيكم" وهاتوا فواتير ما أنفقتموه وخذوه إن شئتم أضعافاً..! فقط اتركوا هذا البلد وشأنه..!

وعلى الأرجح لن يفعلوا ! ولن يتركوا هذا البلد وشأنه ..! طالما أن كثير من أبناء هذا الوطن وكثير من "المناضلين القدامى" و"قادة الثوار" قد طاب لهم المقام هناك، يتمسحون كالقطط على الأفخاذ الأميرية والملكية ويتمرغون على أعتاب قصورهم يلتقطون الفتات وما تجود به بقايا موائدهم...!

لن يتركوا هذا البلد وشأنه ... لأن طوابير "الثوار" على امتداد البصر يصطفون امام عتبات قصور الأمراء تنهش وجوههم شمس الصحراء بإنتظار عطايا وهبات الأمير .. انه مشهد بيع علني للوطن..! وطن بحفنة دولارات...! من منكم تخيّل أن يرى الوطن في سوق النخاسة يُباع ويشترى..! ولكن ... شكراً للثوار الكَسَبة ممن يصطفون على عتبات قصور الأمراء!   



محمد محمد اقميع
  m.egmia@yahoo.cm   
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Recent Posts Widget

" Weapon of paranoia"

إعلام الكراهية

كيف يرتب الإعلام أولوياتنا؟